الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: الصر السموم الحارة.وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس {فيها صر} قال: فيها نار. وعلى القولين، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردًا مهلكًا أو حرًّا محرقًا فإنه يصير مبطلًا للحرث فيصح التشبية. وهذا في التشبية المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله، ولهذا قيده بقوله: {في هذه الحياة الدنيا} فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطامًا. وقيل: مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلًا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلًا للحرث. والظاهر أن الضمير في {ينفقون} عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلًا عن الكافر، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرًا كثيرًا في المعاد، لكنهم إذا قدموالآخرة رأوا كفرهم مبطلًا لآثار تلك الخيرات، فكان كمن زرع زرعًا وتوقع منه نفعًا كبيرًا فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرًا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالًا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل: المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله: {ظلموا أنفسهم} وعدم الاقتصار على قوله: {أصابت حرث قوم} فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولاعثر، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيرًا منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الأهلاك فائدة أصلًا.ويحتمل أن يراد بالظالم هاهنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعًا. والضمير في {وما ظلمهم} للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما ستحقوا به العقوبة. ثم أنه تعالى لما بالغ في شرح احوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالًا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له. الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة، نهاهم عن مودة كل كافر لأن قوله: {بطانة} نكرة في سياق النفي. وقوله: {من دونكم} يؤكد ذلك. وهو إما أن يتعلق بـ {لا تتخذوا} ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى. ومن للتبيين وقيل: زائدة. ثم ذكر علة النهي فقال: {لا يألونكم خبالًا} يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحًا أو جهدًا على التضمين أي لا أمنعك نصحًا. والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسدة. وقيل: خبالًا نصب على التمييز، وقيل: مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم.{ودّوا ما عنتم} أي عنتكم على أن ما مصدرية، والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجمليتن أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم {قد بدت البغضاء} هي شدة البغض كالضراء شدة الضر. والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفًا وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب.وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لابد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته.وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضًا على ذلك.{وما تخفي صدورهم أكبر} لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال: {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} من أهل العقول. وقيل: إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالًا وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما {قد بينا} فكلام مبتدأ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا، فكأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة، فقيل: لأنهم لا يقصرون فقيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل: وما آية ودادة العنت؟ فقيل: قد بدت والله أعلم. أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف هاهنا، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد. ثم استأنف للتحذير نمطًا آخر من البيان مشتملًا على التوبيخ فقال: {ها أنتم أولاء} الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله: {تحبونهم ولا يحبونكم} لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يبحونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر. والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سببًا آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال: {وتؤمنون بالكتاب كله} وأضمر قرينه وهو وهم لا يؤمنون به لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالبًا. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس.وفي الكشاف: إن الواو في {وتؤمنون} للحال، واللام في {الكتاب} للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم.ثم ذكر مضادة أخرى فقال: {وإذا لقوكم قالوا آمنا} أحدثنا الدخول في الإيمان {وأذا خلوا عضوا} ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيرًا ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم {قل موتو بغيظكم} دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام علىلأديان كلها والمقدر كائن، فإن كان هذا سببًا لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله: {إن الله عليم بذات الصدور} أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلًا في جمل المقول، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم: إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه، وقل لهم: إن الله يعلم ما هو أخفى مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها. وإن كان خارجًا فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلًا. ويجوز أن لا يكون أمرًا بالقول لفظًا بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظًا وحسدًا، فيكون أمرًا للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره. ثم ذكر نوعًا آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال: {إن تمسسكم حسنة} أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء {تسؤهم} ساره يسوءه نقيض سره يسره {وإن تصبكم سيئة} ضد من أضداد ما عددنا.{يفرحوا بها} ولم يفرق صاحب الكشاف هاهنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحدًا. وأقول: يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل:
إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في {حسنة} للتقليل وفي {سيئة} للتعظيم {وإن تصبروا} على عداوتهم {وتتقوا} ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه {لا يضركم كيدهم} وهو احتيال الإنسأن لايقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس: هو العداوة.{شيئًا} من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى، فمن كان لله كان الله له.وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلًا في نفسك. وقال بعضهم: {إن الله بما يعملون} في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى.{محيط} فيجازي كل أحد بما هو أهله. اهـ.
|